رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

يسمعني حين يحادثني

قسم : مقالات
الأحد, 25 سبتمبر 2022 21:45

ويظل دائماً للحديث بقية وحلاوة واشتياق ولهفة وانتظار، وما أجمل أن يطربنى حوار وكلمات ويثير داخلى الرغبة فى الاستزادة والمعرفة والتساؤل والاستماع، ومن الإبداع أن يتحول الحديث إلى أبيات شعر أو لحن يدفع بالشجن للنفوس أو شتلات ورود وأزهار تغرس بطريقة هندسية تكتب اسم الحبيب أو تعترف فى خجل بالأحرف الأولى منه.

وإذا أردت أن تملك طفلاً صغيراً فعليك بالحديث له ومعه، ففى شهوره الأولى وعندما يملك القدرة على الاستماع يمكنك أن تهمس له بما تريد وأن تغنى له فسيعتاد صوتك وكلماتك وقد يبتسم أو يضحك بصوت مسموع لمجرد إحساسه أنك تحادثه وأن هذا الصوت له وحده، وعندما تصل سنوات عمره لمرحلة الحوار والحكى فتأكد أنك استوليت على حواسه وتحكم عليها يديك وقلبك وعقلك ليعيش داخلك وينتظرك ويتوق لحكاياتك ويصبح شغفه الأول هو الاستماع إليك.

أما شغف الأحبة فهو أمر مختلف تماماً له حلاوة ومذاق لا يتكرر، ومناخ لا يماثله آخر، ولعل قصة ألف ليلة وليلة التى عشنا معها أحلاماً واستمتعنا بها فى ليالٍ كثيرة بمختلف أعمارنا لهى أكبر دليل على أنها أجمل حكايات الحبيب والونيس؛ فقد ظل «شهريار» ألف ليلة ينتظر مع حب الاستطلاع والشغف واللهفة حديث «شهرزاد»، ومع تلك المشاعر النادرة بالنسبة له التى لم يعشها من قبل والتى أبهرته واستولت على اهتمامه أصبحت زوجته هى الملاذ والعشق والهوى والاعتياد والأمان والحضن الدافئ الذى لم يستطع أن يتخلى عنه ولم يتصور أن يفقده يوماً، والحكاية التى تؤنس ليله بطوله وتزوره فى أحلامه وتهمس فى أذنيه بأن للحديث بقية.

وفى علم النفس أسس سيجمون فرويد فى مطلع القرن العشرين عام (١٨٩٦) ما سمى (العلاج النفسى بالكلام talking cure)، الذى ضم بعد ذلك جميع المدارس والحركات التصحيحية اللاحقة فى العلاج النفسى، وفى هذه الطريقة يبدأ الناس فى مواجهة مخاوفهم ويتعلمون كيف يتعاملون مع الأحداث القاسية.

وقد اشتهر المعالج النفسى الأمريكى (أربين بالوم) بأن له مسيرة طويلة ومتميزة فى الطب النفسى وممارسة ما يعرف بالعلاج النفسى الوجودى، وهو ما كان يقوم به بعض الفلاسفة مثل (جان بول سارتر) و(ألبير كامو)، وقد أصدر «بالوم» كتاب (مخلوقات يوم) يروى فيه قصصاً جذابة عن الجلسات مع المرضى الذين يتصارعون مع المرض النفسى ويواجهون تحديات الحياة وحدهم دون أن يجدوا من يتحدث إليهم ويشاركهم تلك المشاعر المخيفة المقلقة الغامضة، وعن ذلك يقول (بالوم) إن قيمة المعالج فى المستوى الأساسى هى العلاقة الشخصية بين المعالج والمريض، وإن صحة هذه العلاقة هى الجوهر المطلق لما يمكن أن يغير الأشخاص.

وبطبيعة الحال أن من يعانون من عدم وجود من يحادثهم ويستمع إليهم ويصل بهم الحال إلى الاكتئاب قد يعانون من خلل وظيفى ويتحول لأعراض جسدية مثل ضيق التنفس والتعرق وعدم الاتزان وتسارع دقات القلب.

ولكن الروائية والناقدة الأدبية (ريبيكا بست) لها رأى آخر أعلنته فى مجموعتها القصصية (الصوت القاسى)، حيث قالت: لا يوجد شىء اسمه محادثة، فهذا مجرد وهم، لكن هناك أحاديث فردية (مونولوجات متقاطعة)، وهذا هو كل شىء، وترى الكاتبة أننا جميعاً نمر بهذه المراحل خاصة عندما تفرض علينا العزلة لأسباب خارجة عن إرادتنا كأيام الأوبئة أو الحروب، وتؤكد أن العزلة تجعلنا أكثر اشتياقاً للتواصل الاجتماعى وللحديث.

وفى جامعة هارفارد قامت الباحثة (كارين هوانج) بسلسلة من دراسات المتابعة للحصول على درجة الدكتوراه فى السلوك التنظيمى، حيث دعت ١٣٠ مشاركاً إلى مختبرها وطلبت منهم التحدث فى مجموعات ثنائية لمدة ١٥ دقيقة من خلال أحد البرامج الخاصة بالمراسلات عبر الإنترنت، فوجدت أنه فى هذه الفترة القصيرة تباينت معدلات الأسئلة لدى الأشخاص على نطاق واسع، وهو ما جعلها تخرج بنتيجة أن معظم الناس تستمتع بالحديث عن نفسها، لكنها تقلل من فوائد السماح للآخرين بالقيام بالمثل على حساب العلاقات.

وبعيداً عن علماء النفس والفلاسفة والدارسين والباحثين أقول لكم إن أمتع وأحب الأوقات عندما يسمعنى كلماته حين يحادثنى.

Rochen Web Hosting