رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

معجزاتُ أجدادى

قسم : مقالات
الجمعة, 25 فبراير 2022 10:40

المعجزاتُ لا تتكرّر. إن تكرّرت، سقطتْ عنها صفةُ الإعجاز وصارت حدثًا اعتياديًّا. المعجزةُ تحدثُ مرّةً فيُبهَر الذى رأى، وتتناقلها الألسنُ المعاصرة، ثم تُدوَّن فى الكتب، إن كانت فى عصر ما بعد التدوين والطباعة والقلم وما يسطرون، أو تتناقلها الألسنُ جيلًا لجيل، لكى تُدركها الأجيالُ التاليةُ نقلًا عمَن رأى مِن الرائين الأوائل، أو تُنسَى فتندثرُ وتموتُ، إن لم يحالفها حظُّ التدوين أو الرواية. وحينما أتحدّثُ عن معجزاتِ أجدادى، ربما الأدقُّ أن أسميها «أعجوبة»، أو «خارقة»، بدلًا من «معجزة». لأن المعجزات خصيصةُ الأنبياء والرسل؛ حتى يراها الناسُ فيؤمنوا برسالاتهم، مثل عصا موسى وقرآن رسولنا. أما الأعاجيبُ فأشياءُ عجائبيةٌ يصنعها عباقرةُ البشر، والخوارقُ ظواهرُ خارقةٌ للمألوف. لكننى أسمى ما صنع أجدادُنا القَدامَى «معجزاتٍ» لأنها، بمقاييس عصرها، أعجزت أن تأتى بمثلها غيرُها من الحضارات الناهضة آنذاك، مثل الحضارة الإغريقية العظيمة. فلو كنتَ تعيشُ فى القرن ١٧، وقلت لصديقك إن بوسعك أن ترى وتسمع ما يحدث على بعد أميال، فبالتأكيد لن يصدقك، لكن لو قُدِّر لك آنذاك امتلاكُ هاتفٍ أو تليفزيون، فقد صنعت لحظتئذ معجزةً. وهذا ما صنعه أجدادُنا قبل الميلاد بعشرات القرون فى الطب والفلك والهندسة والعمارة والموسيقى والنحت والتشكيل والسياسة، والأهم من كل هذا فى «الأخلاق». أحدثكم عن معجزة دشّنها أجدادى عام ١٢٦٥ قبل الميلاد، والمدهشُ فيها، عطفًا على عجائبيتها، أنها تتكرَّرُ كل عام مرتين!

بالأمس، يوم ٢١ فبراير، جاء الناسُ من أرجاء الدنيا ليشهدوا معجزة المصريين الخالدة التى تتكرّرُ مرتين كل عام. حساباتٌ فلكيةٌ معقدة، ومعادلاتٌ هندسية فراغية بالغة التعقيد، وعقولٌ استثنائية الفرادة، كانت وراء تلك الأعجوبة المعمارية الفلكية التى صنعها أجدادى فى عشرين عامًا، لكى تحيا خالدةً عصيةً على الخفوت، إلى نهاية الزمان بإذن الله. أحدثكم عن أعجوبة معبد «أبو سمبل» الذى احتشد حوله العالمُ قبل أيامٍ؛ ليشهدوا كيف يتسلَّلُ شعاعُ شمس من ثقب دقيق فى جدار سميك بعمق ٢٠٠ متر، حتى يستقر على نقطة بعينها فى جوف الصخر! النقطةُ هى وجهُ الملك «رمسيس الثانى» المخبأ فى العمق السحيق بالمعبد حيث «قُدس الأقداس». منذ تشييده فى القرن ١٣ق.م.، وحتى عام ١٩٦٤م، كانت الشمسُ تتعامد على وجوه الملوك يومى ٢١ أكتوبر، ٢١ فبراير. ولكن، بعد تفكيك المعبد لإنقاذه من الغرق تحت مياه بحيرة السد العالى، ونقله من موقعه القديم، إلى موقعه الحالى، تبدّل اليومان إلى ٢٢ من فبراير وأكتوبر، بسبب اختلاف خطوط الطول والعرض للموقع الجديد الذى يبعد ١٢٠ مترًا غربًا. يدخل الشعاعُ ليضىء وجوه تماثيلَ ثلاثةٍ من الأربعة الموجودة بالمعبد. «رع حور أختى» إله الشمس، «رمسيس الثانى»، «آمون رع» إله طِيبة. ويظلّ التمثالُ الرابع «بتاح» سيدُ العدالة واهبُ الحياة وراعى الفنون، فى الظلِّ؛ ربما لتتأكد رمزيةُ أنه مُضىءٌ بذاته.

استفاد المهندسُ العبقرى مصمّمُ المعبد، بما وصل إليه علماءُ أجدادنا من معرفة دقيقة برحلة شروق الشمس وغروبها، ليصنع تلك الأعجوبة المعمارية. فقط يوم ٢١ مارس من كل عام، ينطلقُ شعاعُ الشروق من نقطة الشرق بالضبط، وينطبقُ شعاعُ الغروب على نقطة الغرب بالضبط. ثم يبدأ الشعاعُ فى الانحراف صوبَ الشمال بمقدار ربع درجة يوميًّا، حتى يعاود الانطباق على نقطة الشرق يوم ٢١ سبتمبر، ثم يستأنفُ رحلةَ الانحراف ليُشرقَ من نقطة تبعد ٢٣ درجة وربع، جنوب الشرق فى ٢١ ديسمبر، ليعودَ وينطبق على نقطة الشرق التام يوم ٢١ مارس، فى دائرة سنوية فلكية لا تحيد ولا تتبدل. وهكذا عرفَ أجدادُنا أن الشمسَ تمرُّ على «كل نقطة»، مرتين فى العام خلال رحلة شروقها وغروبها. فاختاروا مكانًا يقطعُ مسارَ شعاع الشروق ويبعد عن النقطتين مسافةً قدرها الزمنىُّ أربعةُ أشهر، هى الفترة بين ٢١ أكتوبر و٢١ فبراير، فيسقطُ الشعاعُ على تقاسيم وجه الملك فى عمق الجبل فى هذين اليومين، فقط. وهما: يوم ميلاده، ويوم تتويجه ملكًا. وجهوا الثقبَ صوب الشرق، وحفروه ضيّقًا جدًّا، حتى يُخطئه الشعاعُ فى اليوم التالى حين ينحرف ربع الدرجة، فيعمُّ الظلامُ من جديد، انتظارًا لليوم الآخر من العام، حين يعودُ الشعاعُ ليضىء الوجه الملكىّ. ما هذا الإعجاز العجيب!

أولئك أجدادُنا الذين علينا أن نتأمل تاريخَهم الماجدَ لنفخر بمصريتنا، التى كرّمنا بها اللهُ على سائر الأعراق. ثم نبنى على أمجادهم أمجادًا جديدة، لكى يفخروا بنا كما نفخر بهم. وليس علمُ الفلك لدى السلف المصرىّ إلا غيضًا من فيض، إلى جوار علومٍ وعبقرياتٍ أذهلتِ العالمَ المتحضّر، فانحنى أمامَها إجلالاً. تحيا مصر.

 

Rochen Web Hosting