رئيس مجلس الادارة
رئيس التحرير
ميرفت السيد
ترخيص المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 2022/31

سيدي الذوق

قسم : مقالات
الخميس, 16 نوفمبر 2023 18:17

هناك كلمات يرددها المصريون لا تُنسى، وتحمل جميع المعانى الجميلة والمعبرة والدافئة والمملوءة بالحب والعطاء المتبادل والدعوة لاحترام الكبير وإعطائه مكانته اللائقة، يقول المحبون المغرمون عشاق مصر المحروسة أم الدنيا: (يا ماشى فوق أرض مصر حاسب وانت بتدوسها لو التاريخ حكى كنت هتوطى وتبوسها)، ومن ضمن العادات والتقاليد التى يعيشها المصريون فى الأحياء الشعبية ترديد مقولة (الذوق ماخرجش من مصر) عندما يشتد الخلاف بين البعض وتتأزم الأمور فيحاول أهل الخير تهدئة النفوس وتطييب الخواطر ومحاولة إقناع المتنازعين التعامل بلطف ولين والبعد عن المنازعات.

وفى قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية لأحمد أمين يفسر كلمة «الذوق» فى هذا المثل بأنها تدل على المعنيين معاً، فالمراد بها مرة الشعور الرقيق الذى يصاحب النفس، أما المعنى الثانى فيعود على صاحب قصتنا اليوم (سيدى الذوق).

ولا بد أن نعطى كل ذى حق حقه لأعترف أن ما دفعنى للكتابة عنه هو ما نعيشه حالياً من أحداث دموية وصراعات وضحايا بشرية وخسائر اقتصادية وأراضٍ تحرق وتدمر وأطفال ونساء بلا مأوى وكأن هناك معركة نشبت بين مجموعة ممن كان يطلق عليهم قديماً (البلطجية) الذين لا يخشون قانوناً ولا يحترمون الأعراف أو التقاليد، وليت الأمر يتوقف عند هذه النقطة الساخنة، بل إن الأمور تزداد سوءاً بتوزيع الاتهامات ووصف البعض بالخيانة والتقاعس عن المساعدة وربما الشماتة، والحقيقة غير ذلك تماماً فيشعر المتابع للأحداث أن تلك المنظمات الدولية والدول الأعضاء فيها كان لزاماً أن يلتقوا بهذه الشخصية العريقة التى عاشت وسط المصريين وتعلموا منه وما زالوا يطبقون قانونه الإنسانى الرفيع. إنه سيدى حسن الذوق صاحب ذلك الضريح الصغير الذى بُنى خلف الجزء الأيسر من باب الفتوح مباشرة، هذا الباب الذى كان يعتبر مدخل القاهرة الفاطمية قديماً وخلفه كان يعيش المصريون فى منازلهم وتجارتهم، حياة يحكمها الخير والحب والأصول العريقة.

وفى هذا الحى الشعبى المشحون بطبقات تاريخية تتراكم فيها المعتقدات الشعبية تتردد العديد من القصص حول صاحب هذا الضريح؛ فيذكر أحد تجار منطقة الحسين أنه كان رجلاً طيباً لطيف المعشر ذا ذوق رفيع، وكان يبذل جهوداً مضنية فى محاولات منع المشاجرات والمنازعات التى كانت تنشب بين الناس لأسباب مختلفة ومحاولة تهدئة خواطر الثائرين الذين كانوا يفقدون أعصابهم فيسبون ويلعنون، وكان الرجل يبذل قاصارى جهده فى تعليم الناس الذوق السليم وأساليب التعامل بالحسنى والمعروف.

لكن يبدو أن الناس لم تكن استجابتهم له سهلة فضجر منهم وشعر باليأس وقرر الرحيل عن مصر وأهلها وحمل متاعه على ظهره وسار مودعاً شوارع القاهرة ودروبها وحواريها التى عشقها وقضى حياته فيها إلى أن وصل إلى باب الفتوح فسقط ليحل أجله عندما أوشك على الخروج من الباب، فقام الأهالى بدفن الرجل حيث سقط وأقاموا له ضريحاً صغيراً متواضعاً وأطلقوا عليه (ضريح سيدى حسن الذوق)، وقالوا إنه لم يستطع أن يخرج من مصر حباً فيها. ويشير أحد الباحثين الأثريين إلى أن هذا الرجل عاش إبان فترة الحكم المملوكى فى مصر، وأنه كان تاجراً من تجار منطقة الحسين واشتهر بقوته وحكمته وعقله الرزين، وكانوا دائماً يتحاكمون لديه لفض المنازعات والخلافات التى تقوم بين أهالى المحروسة، ويشيرون فى حكاياتهم عنه إلى أن مشاجرة كبيرة نشبت فى الحى الذى يعيش فيه، وعندما تدخل وحاول فضها والصلح بين المتاجرين فشل، فأحس أن مكانته قد تهاوت، فقرر الخروج من مصر، إلا أنه لم يتحمل ألم فراق الوطن فسقط ميتاً.

وإذا كانت هذه القصة قد مر عليها أكثر من سبعمائة عام فلا بد أن يعرف الجميع من مختلف الجنسيات أن الذوق ضابط اجتماعى يلعب دوراً مهماً فى حياتنا وأن علينا دوراً كبيراً فى الحفاظ عليه ليظل بيننا أو ليفصل فى تلك الأحداث غير المقبولة حتى لا يرحل أو يسقط على حدودنا فاقداً حياته حزناً وقهراً من قسوة الفشل.

a

Rochen Web Hosting